سورة القمر - تفسير تفسير القرطبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (القمر)


        


{وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42)}
قوله تعالى: {وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ} يعني القبط و{النُّذُرُ} موسى وهرون. وقد يطلق لفظ الجمع على الاثنين. {كَذَّبُوا بِآياتِنا} معجزاتنا الدالة على توحيدنا ونبوة أنبيائنا، وهى العصا، واليد، والسنون، والطمسة، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم.
وقيل: {النُّذُرُ} الرسل، فقد جاءهم يوسف وبنوه إلى أن جاءهم موسى.
وقيل: {النُّذُرُ} الإنذار. {فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ} أي غالب في انتقامه {مُقْتَدِرٍ} أي قادر على ما أراد.


{أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ (46)}
قوله تعالى: {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ} خاطب العرب.
وقيل: أراد كفار أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقيل: استفهام، وهو استفهام إنكار ومعناه النفي، أي ليس كفاركم خيرا من كفار من تقدم من الأمم الذين أهلكوا بكفرهم. {أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ} أي في الكتب المنزلة على الأنبياء بالسلامة من العقوبة.
وقال ابن عباس: أم لكم في اللوح المحفوظ براءة من العذاب. {أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ} أي جماعة لا تطاق لكثرة عددهم وقوتهم، ولم يقل منتصرين اتباعا لرءوس الآي، فرد الله عليهم فقال: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ} أي جمع كفار مكة، وقد كان ذلك يوم بدر وغيره. وقراءة العامة {سَيُهْزَمُ} بالياء على ما لم يسم فاعله {الْجَمْعُ} بالرفع. وقرأ رويس عن يعقوب {وسنهزم} بالنون وكسر الزاي {الجمع} نصبا. {وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} قراءة العامة بالياء على الخبر عنهم. وقرأ عيسى وابن إسحاق ورويس عن يعقوب {وتولون} بالتاء على الخطاب. و{الدُّبُرَ} اسم جنس كالدرهم والدينار فوحد والمراد الجمع لأجل رءوس الآي.
وقال مقاتل: ضرب أبو جهل فرسه يوم بدر فتقدم من الصف وقال: نحن ننتصر اليوم من محمد وأصحابه، فأنزل الله تعالى: {نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ. سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ}.
وقال سعيد بن جبير قال سعد بن أبي وقاص: لما نزل قوله تعالى: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} كنت لا أدرى أي الجمع ينهزم، فلما كان يوم بدر رأيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يثب في الدرع ويقول: اللهم إن قريشا جاءتك تحادك وتحاد رسولك بفخرها وخيلائها فأخنهم الغداة- ثم قال- {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} فعرفت تأويلها. وهذا من معجزات النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأنه أخبر عن غيب فكان كما أخبر. أخنى عليه الدهر: أي أتى عليه وأهلكه، ومنه قول النابغة:
أخنى عليه الذي أخنى على لبد ***
وأخنيت عليه: أفسدت. قال ابن عباس: كان بين نزول هذه الآية وبين بدر سبع سنين، فالآية على هذا مكية. وفى البخاري عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: لقد أنزل على محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمكة وإني لجارية ألعب: {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ}. وعن ابن عباس أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال وهو في قبة له يوم بدر: «أنشدك عهدك ووعدك اللهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم أبدا» فأخذ أبو بكر رضي الله عنه بيده وقال: حسبك يا رسول الله فقد ألححت على ربك، وهو في الدرع فخرج وهو يقول: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ. بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ} يريد القيامة. {وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ} أي أدهى وأمر مما لحقهم يوم بدر. و{أَدْهى} من الداهية وهي الامر العظيم، يقال: دهاه أمر كذا أي أصابه دهوا ودهيا.
وقال ابن السكيت: دهته داهية دهواء ودهياء وهي توكيد لها.


{إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (49)}
قوله تعالى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ} فيه أربع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ} أي في حيدة عن الحق و{سُعُرٍ} أي احتراق.
وقيل: جنون على ما تقدم في هذا لسورة. {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: جاء مشركو قريش يخاصمون رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في القدر فنزلت: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ. إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ} خرجه الترمذي أيضا وقال: حديث حسن صحيح.
وروى مسلم عن طاوس قال: أدركت ناسا من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولون: كل شيء بقدر. قال: وسمعت عبد الله بن عمر يقول: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كل شيء بقدر حتى العجز والكيس»- أو: «الكيس والعجز» وهذا إبطال لمذهب القدرية. {ذُوقُوا} أي يقال لهم ذوقوا، ومسها ما يجدون من الألم عند الوقوع فيها. و{سَقَرَ} اسم من أسماء جهنم لا ينصرف، لأنه اسم مؤنث معرفة، وكذا لظى وجهنم.
وقال عطاء: {سَقَرَ} الطبق السادس من جهنم.
وقال قطرب: {سَقَرَ} من سقرته الشمس وصقرته لوحته. ويوم مسمقر ومصمقر: شديد الحر.
الثانية: قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ} قراءة العامة {كُلَّ} بالنصب. وقرأ أبو السمال {كل} بالرفع على الابتداء. ومن نصب فبإضمار فعل وهو اختيار الكوفيين، لان إن تطلب الفعل فهي به أولى، والنصب أدل على العموم في المخلوقات لله تعالى، لأنك لو حذفت {خَلَقْناهُ} المفسر وأظهرت الأول لصار إنا خلقنا كل شيء بقدر. ولا يصح كون خلقناه صفة لشيء، لان الصفة لا تعمل فيما قبل الموصوف، ولا تكون تفسيرا لما يعمل فيما قبله.
الثالثة: الذي عليه أهل السنة أن الله سبحانه قدر الأشياء، أي علم مقاديرها وأحوالها وأزمانها قبل إيجادها، ثم أوجد منها ما سبق في علمه أنه يوجده على نحو ما سبق في علمه، فلا يحدث حدث في العالم العلوي والسفلي إلا وهو صادر عن علمه تعالى وقدرته وإرادته دون خلقه، وأن الخلق ليس لهم فيها إلا نوع اكتساب ومحاولة ونسبة وإضافة، وأن ذلك كله إنما حصل لهم بتيسير الله تعالى وبقدرته وتوفيقه وإلهامه، سبحانه لا إله إلا هو، ولا خالق غيره، كما نص عليه القرآن والسنة، لا كما قالت القدرية وغيرهم من أن الأعمال إلينا والآجال بيد غيرنا. قال أبو ذر رضي الله عنه: قدم وفد نجران على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالوا: الأعمال إلينا والآجال بيد غيرنا، فنزلت هذه الآيات إلى قوله: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ} فقالوا: يا محمد يكتب علينا الذنب ويعذبنا؟ فقال: «أنتم خصماء الله يوم القيامة».
الرابعة: روى أبو الزبير عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن مجوس هذه الامة المكذبون بأقدار الله إن مرضوا فلا تعودهم وإن ماتوا فلا تشهدوهم وإن لقيتموهم فلا تسلموا عليهم». خرجه ابن ماجه في سننه. وخرج أيضا عن ابن عباس وجابر قالا: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صنفان من أمتي ليس لهم في الإسلام نصيب أهل الارجاء والقدر». وأسند النحاس: وحدثنا إبراهيم بن شريك الكوفي قال حدثنا عقبة بن مكرم الضبي قال حدثنا يونس بن بكير عن سعيد بن ميسرة عن أنس قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «القدرية الذين يقولون الخير والشر بأيدينا ليس لهم في شفاعتي نصيب ولا أنا منهم ولا هم مني» وفي صحيح مسلم أن ابن عمر تبرأ منهم ولا يتبرأ إلا من كافر، ثم أكد هذا بقوله: والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر. وهذا مثل قوله تعالى في المنافقين: {وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ} وهذا واضح.
وقال أبو هريرة: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الايمان بالقدر يذهب الهم والحزن».

1 | 2 | 3 | 4